منتدى خطاب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
منتدى خطاب

منتدى ثقافى واجتماعى ورياضى وترفيهى وكمبيوتر وستالايت
 
الرئيسيةالرئيسية  البوابةالبوابة  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخول  

 

 قصه أبو الهول ليوسف أدريس

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
هاله خطاب

هاله خطاب


عدد الرسائل : 1835
تاريخ التسجيل : 20/06/2007

قصه أبو الهول ليوسف أدريس Empty
مُساهمةموضوع: قصه أبو الهول ليوسف أدريس   قصه أبو الهول ليوسف أدريس Icon_minitimeالسبت يوليو 14, 2007 3:42 am

أبو الهول - يوسف إدريس

كنا نعزى فى الحاج سعد ، والمأتم حابك إذ كان الوقت بعد العشاء حيث يكثر المعزون . كانت الخيمة على قد الحال فيها من الثقوب أضعاف مافيها من قماش ، والكلوبات نورها يعانى شحوب الأنيميا الحادة ، ومع هذا كان يبدو فى الظلام الخرافى المطبق على قريتنا ساطعا براقا يعشى جموع الفلاحين القادمين يعزون والذين لم تتعود عيونهم أبدا الضوء فى الليل ، فمابالك بنور الكلوبات ؟ ولهذا كانوا يتوهون فى الخيمة ولا يتعرفون على الناس إلا بصعوبة .
وكان الأعيان يحتلون - كالعادة - مقاعد الصدارة ذات القطيفة الباهتة المتآكلة ، والذهب الذى تحول إلى جرب ، والكسور والرضوض التى أصابت الأذرع والأرجل على مر الزمن .
وكنت أيامها عميد المتعلمين فى بلدتنا إذ كنت طالب طب ، وقد أجمع الناس إجماعا رهيبا على تلقيبى بالدكتور ، وتبنانى أهل بلدنا واعتبرونى ثروة قومية يفاخرون بها البلاد الأخرى . وتقول نساء قريتنا لصاحباتهن فى السوق :
- يا بت اختشى داحنا حدانا دكاتره ..
وأمر على الأولاد وهم يلعبون فيكفون عما هم فيه من لعب ويشير إلىّ أحدهم قائلاً للآخرين :
- والنبى ده دكتور حق حقانى يا ولاد .

وإذا مررت على الكبار تترى الدعوات خلفى ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم ، تحرسنى من العيون وتخلينى لأبى وتنجح لى المقاصد .

وأصبح من حقى وواجبى اذن وقد رفعنى الناس إلى مصاف الأعيان أن أجلس بينهم . ومع هذا كنت أفضل ويفضل معى بقية المتعلمين أن نجلس مع الغلبية العظمى من أهل بلدنا ، الذين كان يقول عنهم الحاج سعد نفسه - عليه رحمة الله - :
- ربنا سبحانه وتعالى خلق الناس اللى بتفهم من تراب الجنة الناعم ، وبعدين فضلت شوية نخالة خشنة احتار يعمل فيها ايه ، فراح راميها وقال كونى عبادى الفلاحين ، فكانت .

كنا نفضل الجلوس إلى هؤلاء حيث لا نتكلف ما لانطيق من التأدب واصطناع الرجولة ، وحيث نتحدث كمانشاء بلا ضابط أو رابط أو تشكك ، وحيث نجد من يتقبلون كلامنا وكأنه آيات منزلات .

وفى مأتم الحاج سعد أيضا جلست فى الركن القريب من الباب ومعى بعض طلبة الجامعة وعدد لا يحصى من ( النخالة ) ، وسرعان ما تضخمت الجماعة بانضمام بعض الذين يتمسحون بالمتعلمين وعلى رأس هؤلاء أبو عبيد التومرجى فى مستشفى حميات المركز ، والذى كان يفضل أن تتواجد ( الهيئة الطبية ) فى مكان واحد ، فقد كان هو الآخر يزاول الطب يكشف ويشخص ويعطى الحقن ، وله بالطو أبيض نظيف وجلابية ( دبلان ) وطربوش ، والحق أنه يبدو بملابسه تلك أوجه منا جميعا .

وكان آخر القادمين إلى مجلسنا عبد الله المزين ، والرجل كان يقوم أحياناً بعمل حلاق الصحة ويبدو أنه هو الآخر يعتبر نفسه يمت بصلة ما إلى الهيئة ، فكان إذا رآنا جالسين أعطى صبيه شنطة الحلاقة وأجلسه بها فى مكان بعيد وكأنه يتخلص من شخصيته كحلاق ، ثم يهل علينا قائلا للجميع :
- السلام عليكم !
ويلتفت إلىّ بسلام خاص قائلا :
- نورتنا يا دكتر .

وكان ينطقها ( دكتر ) ليؤكد لى وللسامعين أنه رجل فاهم ، وليبدأ بها شخصيته كعضو ملحق بالهيئة الطبية الموقرة ..

كنا جالسين فى صمت نستمع إلى الشيخ مصطفى مقرىء بلدنا الذى كان قد تسلم دكة الفقهاء ، وتسلمنا بعد العشاء يصب علينا جام صوته الغليظ القبيح ولايريد أن يختم أو ينتهى . وكلما تهدج صوته ظننا أن الفرج قريب وأنه سوف يسكت ، ولكن يخيب ظننا إذ ما أسرع ماكان يمط رقبته وكأنه يريد انتزاعها من جسده ، ويكشر جداً ولاندرى لماذا يكشر ، ويسد أذنه اليمنى ويخفى عينه ببقية أصابعه ويحزق وتمتلىء رقبته الطويلة الرفيعة بالعروق والهواء ، وتنتفخ حتى لنخاف عليها وعلينا من الإنفجار ، ثم ينغص الشيخ مصطفى ، وتتطاير شظايا صوته مخترقة فضاء الليل الواسع ترج قريتنا رجاً ، ويصحو لها نائمون فى بلاد أخرى .

وكان الوحيد المباح له الحركة فى المأتم هو شيخ الخفراء وقد شنط البندقية فى كتفه وراح ينظر إلى الناس كمن يقول : نحن هنا . ينظر إليهم ويتمشى فى الخيمة قليلا ، ثم يسرع إلى الخارج يفاجىء الأولاد الذين تجمعوا على المأتم والكلوبات ونقوش الخيمة الغريبة الباهتة ، وينهال عليهم ضربا بخيزرانته .

وجاء الفرج وقال الشيخ مصطفى ونحن غير مصدقين : صدق الله العظيم .
وانهال عليه الناس من كل صوب :
- تقبل الله يا أستاذ .... الله يفتح عليك ... حرماً ... الله يفتح عليك ... حرما .. الله يعمر بيتك .
وكانت الكلمات تخرج من الأفواه حارة لافحة ، آخر ما تصلح له أن تكون دعوات .

وامتلأت الخيمة بعدها بهمهمة الجماعات المتقاربة . وبدأنا نتكلم نحن الآخرون ونال الشيخ مصطفى من ألسنتنا الكثير . ثم بدأنا كالعادة نخوض فى سير الأعيان ، وانتهينا أخيرا إلى ذكرياتنا عن القاهرة .
كنا نتكلم نحن فقط وكان بلدياتنا الفلاحون ساكنين يسمعوننا ويضحكون ، وينظرون إلينا ويتأملون كلامنا وكيف ننطقه ، ويتحسسون بأعينهم جلابيبنا ( الزفير ) و ( البفتة ) ، ويتفرجون على طربوش أبو عبيد التمرجى وعلى ساعة يدى وبريقها كلما عكست ضوء الكلوبات ولا يتكلمون .. وهكذا كان دأبهم دائما إذا جلسوا معنا ، نرى فى وجوههم السمراء المعفرة اقتناعا كاملا بما نقول ، وفى عيونهم إعجابا مطلقا لنا ، وفى تأييدهم لنا حماسا منقطع النظير .. وكان يهيمن عليهم دائما وجوم لعله خوف منا ، ولعله هوة يحسون أنها تفصل بيننا وبينهم ، فكان الواحد منهم لايخاطب الواحد منا ، وانما إذا أعجبه كلام قيل يميل على جاره ويهمس له معلقا أو يلكزه ، أما إذا بلغ الإعجاب حد الإعجاز فحينئذ تتصاعد منهم التعليقات رغما عنهم .. كلها متشابهة ، وكلها فى آن متقارب وكأنما تصدر عن جسد حى واحد خشن كبير .
وحينما أوجد ويوجد أبو عبيد التمرجى ، كان ينتهز أول فرصة تسنح له ويخبط سؤالا ما .. ولابد أن يكون السؤال فى الطب . كان يزاول العلاج ويهمه أن يثبت للفلاحين وللمتعلمين أيضا أنه عالم كبير يناقش ( الدكتور ) مناقشة الند للند . وكان إذا تحدث معى أو سألنى لا يفعل ذلك بلغة بلدنا المحلية وإنما بلغة البندر ، وإلا فما الفرق بينه وبين الفلاحين ؟ .. ولايسأل السؤال بطريقة عادية وإنما له أسلوب مؤدب فى أدبه برود وتلامة ، نفس أسلوبه الذى يعرض به ( خدماته ) على الناس ويطالب بأتعابه وفوقها ( شوية ) لبن أو أكلة بامية من بامية الزبائن الحلوة .. ودائما بامية الزبائن حلوة .

وكانت أسئلته تزعجنى جداً ، فأيامها كنت لا أزال إعدادى طب أشرح الضفادع وأدرس الديدان ، ولا أعلم عن الأدوية والأمراض إلا أنى ( دكتور ) . وكان هو من كثرة عمله فى المستشفيات قد حفظ كام اسم مرض وكام اسم دواء . وليلتها استطرد أبو عبيد يتحدث عن مرض الحاج سعد وكيف أخذه للدكتور حنا طبيب المركز وفشل علاجه ، ثم وصف له هو حقن ستروميسين وأقراص سلفات يازين 3 × 3 × 5 ( هكذا كان يقول ) ، وم ، قلوى ، ومنعه عن الطعام منعا باتا ، ولكن المرحوم هفت نفسه إلى الفسيخ يوم السوق والتهم وحده رطلا .. فحم القضاء ..
وغمغم الجمع الذى حولنا ، فهنا وفى مجال القسمة والأعمار يستطيعون الكلام :
- بتيجى على أهون سبب ..
- أجله كده ..
- ماحدش بيفوت يوم من عمره ..
- حكمته ..
وإذا بدأ أبو عبيد .. فمحال ينتهى ... ولهذا أنشأ يحدثنا عما جرى بعد الوفاة .. فهو الذى استخرج تصريح الدفن رغم عصلجة الطبيب ... واستخرجه بعد ميعاد العمل الرسمى . وكان واضحا أن لولا شطارته لبقى المرحوم بلا دفن إلى اليوم التالى .

ولست أذكر كيف استطعنا نحن ( استخراج ) الحديث من أبو عبيد وإدارته بيننا نحن ( المتعلمين ) ، ولكن أذكر أن المناقشة دارت حول الجثة ، وعن هل من الممكن أن تبقى أياماً بلا دفن . وبعد أن هدأت حدة النقاش سألنى أبو عبيد والإهتمام الشديد ظاهر على وجهه :
- ألا قوللى يا دكتور ؟
وكان يقول لى ( يا دكتور ) ليبدو ثمة فرق بينه وبين الحلاق من ناحية ؛ وبينه وبين الفلاحين الذين يقولون ( داكتور ) من ناحية أخرى ..

واستدرت إليه استعد لسؤاله البايخ ، فقال :
- هو التخشب الرمى بيظهر بعد الوفاة بقد ايه ؟
وصمت الموجودون جميعا ، المتعلمين وغير المتعلمين ، يحملقون مذهولين فى كلمة ( التخشب الرمى ) وهى لاتزال ترن فى الجو وتحوم حولنا ، حتى حلاق الصحة أذهلته الكلمة فراح ينظر إلى أبو عبيد فى دهشة وحسد وكأنما يستكثر عليه معرفة كلمة كتلك . ومالبث أنظار الجميع أن تحولت إلىّ تستنجد بى وتنتظر الشرح . وكنت من لحظة أن سمعت الكلمة قد أصابتنى حيرة بالغة فماكنت أعرف ماتعنيه . ولما وجدت التساؤل حاصرنى ابتسمت ابتسامة صفراء وسألته السؤال الذى يكسب به العاجز الوقت :
- فيه ؟
فقال وكأنه يطرح قضية عامة للمناقشة :
- أصلى اختلفت النهارده مع الدكتور صبحى الحكيمباشى بتاعنا ... أنا أقول نص ساعة وهو يقولى يا أحمد ساعتين بس ..
فأيه رأيك يا دكتور ؟

وتصنعت لهجة العلماء وقلت :
- لا .. أنت غلطان وهو غلطان .. هى تيجى ساعة كده ...
ونظرت إلى وجوه الجالسين فرأيتهم يسمعون إجابتى ويتبادلون النظرات ؛ والكلمة لا تزال ترن فى آذانهم ولا يفهمون . وصمتنا ثوان قليلة رحت أتطلع أثناءها إلى أبو عبيد لأرى إن كان قد اقتنع أم لا يزال به شك ؛ وكان هو خافضا بصره إلى الأرض يحدق فى قبضته بأدب جم . وكنت أعرف حركته اللعينة تلك وأعرف أنه يصطنعها كلما ارتبكت أنا حتى لا يحرجنى ، إذ لا يصح وهو ( التمرجى ) أن يحرج ( الدكتور ) ..
غير أنى فوجئت بصالح - الله يعافيه بالعافيه - يزر عينيه ويسألنى :
- إلا يا داكتور أيه خشب الرمه ده ؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هاله خطاب

هاله خطاب


عدد الرسائل : 1835
تاريخ التسجيل : 20/06/2007

قصه أبو الهول ليوسف أدريس Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصه أبو الهول ليوسف أدريس   قصه أبو الهول ليوسف أدريس Icon_minitimeالسبت يوليو 14, 2007 3:43 am

وصالح هذا كان فلاحا ولكنه لا يزرع الأرض لحسابه وإنما يشتغل عند أحد المستأجرين ، أظنه واحداً من عيلة أبو شندى ، يشتغل مقابل طعامه وكسوته وكذا كيلة فى العام . وكان لونه لا هو أسمر ولا أصفر ، لون رمادى كلون التراب .. وكان طويلا هائلا يخيف الناس مرآه حتى سموه أبو الهول . وعمرى ما رأيته مبتسما ولا رأيت عينيه مفتوحتين وكأنما كان يرى برموشه ، وكانوا يقولون أن قلبه ميت ؛ وأنه لا يخاف ولا يزعل ولا يفرح ، وأنه أقوى واحد فى بلدنا لولا أنه لا يحب إظهار قوته تواضعا ، ومن خشية الله . وكان كلامه بطيئا تحس معه أنه ينتزعه من نفسه انتزاعا ، وكان دؤوبا على جلسة المتعلمين ولكنه لا يتكلم فيها أبداً . وكان الناس يعرفون عنه هذا السكوت ولا يحاولون استفزازه ، مخافة أن يثور مرة فيقتل من أمامه .. ومع هذا لا يذكر الذاكرون فى بلدنا - على كثرة مافيها من مؤرخين وذاكرين - أنه ثار مرة ولا اشتكى أو توجع .

وكادت جماعتنا تضحك للسؤال المفاجىء لولا المأتم ، والظاهر أن أبو الهول كان قد عبر بسؤاله عما يدور فى الخواطر جميعاً ، فمالبثت الوجوه أن تطلعت إلى ، كلها متسائلة جادة ، ماعدا وجه أبو عبيد الذى راح يتطلع ناحيتى ويبتسم ، ويقول بابتسامته :
- أقول أنا ؟
وعسست أطلب منه السكوت وقلت على البديهة :
- أصل ياصالح جسم الإنسان ده عجيب قوى ..

وسرحت أحدثهم حديثا عاما عن الجسد ، وكيف يجرى الدم ، ويدق القلب .

وسكت ، لأرى إن كانوا قد نسوا أو اقتنعوا .. ولكن صالح زر عينيه مرة أخرى ، وعاد يسألنى :
- أمَّال رمة أيه اللى بيقول عليها لفندى ؟

وعاد ( لفندى ) أبو عبيد يقول بابتسامته اللامعة الباردة : تحرَّم تعمل دكتور ؟ ولما وجدنى سكت ، والسكوت علامة الرضا ، اندفع يقول :
- بعد أذنك يا دكتور .. أصل بنى آدم منا يا اخواننا جسمه من جوه مليان جير وحديد وزرنيخ وسليمانى وماركورو كرون .. وطول ماالواحد منا حى الحاجات دى بتبقى سايحه فى الجسم فلمّا بينقضى الأجل ويتوفاه الله بتروح عاقدة على بعض زى مابيعقد جالوص الطين فى وش البعدا .. تقوم تيجى تحسس على جسم الميت من دول تلاقيه كنُّه لوح لطزانه تمام .

وسكت أبو عبيد عن الكلام ويبدو أن ماقاله كان عجيبا غريبا لايستطيع أحد تصديقه دون شهادة منى .. وعادت العيون تنظر إلىّ وتطلب الشهادة ، ولم أجد لدى شيئاً يدحض علم أبو عبيد فهززت رأسى موافقا ؛ وحينئذ فقط تصاعدت التعليقات :
- يا خبر !
-أترِّن بنى آدم رمه يا ولاد وما هوش دارى .
- عجايب والله .
- ماتموت يا واد يا صالح خلينا نعرش بيك الزريبة .
- عشان تحمدوا ربنا على لقمة العيش ونفس الهوا يا عالم بذر كتان .

وأصبح أبو عبيد نجم الحلقة بلا منازع .. وأخذت العيون تلتف حوله وترعاه فى تبجيل وكأنه هو الذى يستطيع إذا شاء أن يحيل الواحد منهم إلى قطعة من خشب الرمة ..

ولم أحتمل هذا ، فسرعان ما وجدت نفسى اندفع فى الحديث عن الوفاة والجثث حديث العارف الخبير . وأخذت أروى لهم النوادر والحكايات عمايحدث فى مشرحة كلية الطب وكيف أننا نقضى طيلة النهار والمشارط فى أيدينا نقطع الأجساد ونبقر البطون ، مع انى لم أكن قد دخلت المشرحة ولا رأيتها فى حياتى .. واستوليت على انتباههم كلها . وغاب عن ذاكرتهم أبو عبيد برمته ، والمأتم وكل شىء .

وفى ذلك الوقت صعد إلى أريكة الفقهاء رجل ضخم يرتدى الجبة والقفطان . وتبينت فيه الشيخ عبد الحميد واعظ المركز ، وكان الرجل - والحق يقال - نشيطاً فى أداء وظيفته حتى لهجت الألسن بذكره . كان لا يترك مأتماً فى قرية إلا ويذهب إليه ويعزى فيه ، ليس هذا فقط ، بل أنه مايكاد يجلس قليلا وتخلو دكة الفقهاء حتى يمضى إليها فى بطء وقور ، ويرتل بصوت هادىء ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ويعم الصمت المكان وتشرئب الأعناق تتابع درس الشيخ وهو يرويه بصوت حلو ، ينغمه ويطيل فى نبراته الحلقية ، ويضم الصاد ، وتخرج الراء لها زغرودة ، وتحس إذا ما سمعت الكلمات المترادفة الممدودة وهى تتهادى من حنجرته - بينما وجهه مكتنز أحمر ، وشاربه مخطط أسود ، وعمامته ناصعة البياض - تحس أنه لابد قد تعشى بخروف دسم قبل أن يلقى الدرس ، وأن كلماته تخرج مطمئنة شبعانة لا تشكو قلقاً ولا تعبا ، وأن لا أولاد له ولا زوجة أو مشاكل وأنه - بالتأكيد - له الجنة .

صعد الشيخ وأخذ يلقى الدرس .. وكان مفروضا أن أسكت مع الساكتين وأسمعه ، ولكنى كنت قد طرقت بحديثى بابا لا يستطيع أبو عبيد أن ينافسنى فيه .. فالحقن والأدوية والأسماء الغريبة له فيها .. أما الجثث .. فسيرتها لا تأتى إلا على ألسنة الدكاترة وحدهم .. ولهذا مضيت أتحدث .. وانقسم المأتم .. الغالبية تسمع الواعظ والأقلية تسمعنى ، وأنا أوزع انتباهى بين كلامى وكلام الواعظ .. كان الرجل قد وصل فى حديثه إلى العذاب الذى ينتظر العاصين فى الآخرة .. وكان قد استولى على الألباب جميعا .. أقصد ألباب ( النخالة ) .. فالأعيان كنت ألمحهم يتهامسون ويتثاءبون وينظرون فى ساعاتهم ويختلفون على أيها أضبط .. أما أصحاب الأجساد الضامرة البالية فكانوا مسمرين فى أماكنهم يسمعون ، ووحوههم صفراء ذابلة كأوراق القطن الخضراء حين تصيبها الدودة واللطع ، وأفواههم مفتوحة وعيونهم محمرة بالرمد والرماد تحاور الضوء وتداوره لتستطيع أن تتابع الواعظ وهو يتحدث حديث العالم الخبير عمايناله المذنبون ، وكيف يتولى أمر كل منهم أربعة من زبانية الجحيم الغلاظ الشداد .. يخلعون عنه ملابسه .. ثم ينهالون عليه ضربا ( بمقرعة ) من حديد لها أسنان تنهش لحمه ، وتدشدش عظامه ، حتى إذا مااستوى وشبع أخذوه إلى طابق آخر من النار .. وتولوا ادخاله فى مواسير جدرانها من اللهب ، يظل يحرق وهو حى ، وكلما ذاب جلده كان له غيره ليتجدد عذابه .. فإذا عطش وطلب ماء سقوه من ماء النار ، وماء النار من حميم وغساق .

الغالبية كانت تسمع الواعظ ، ولا تكاد تعرف ما المقرعة ولا الحميم أو الغساق ، ومع هذا فمن طريقة الشيخ عبد الحميد فى الإلقاء ، ومن غرابة الأشياء التى كان يرويها ورهبتها ، كان التأثر قد بلغ بالناس حد البكاء .
والأقلية كانت تتابع حديثى ، وكنت قد تعديت حدود كل معقول وأخذت أروى لهم تفاصيل دقيقة مزعجة عن حوادثنا ونوادرنا مع الجثث ، وكيف أننا نتناول طعامنا أحيانا فى المشرحة وعلى مرأى من البطون المفتوحة ، وأحيانا أخرى كثيرة نلعب ( الكوتشينة ) على صدور الموتى ، وكيف أننى صنعت من العظام والجماجم محابر ومساطر وأقلاما .. ثم حكيت لهم قصة طويلة عن الذراع الذى اشتريته مرة من فراش المشرحة ، وأخذته معى إلى حجرتى ، وما أحدثه من هرج ومرج بين سكان البيت ... الخ ... الخ .
وسألنى أبو الهول وهو لم يعد يحتمل :
- واشتريت الدراع بكام يا داكتور ؟
وتصنعت التذكر وقلت :
- والله خدته من الراجل يومها بريال .
فقال مبهوراً :
- ياه .. يا خبر أسود ومنيل ... أمَّال يا خواتى بنى آدم على بعضه يساوى كام يا داكتور ؟
فقلت وأنا أهز أكتافى :
- والله مااشتريتوش .. إنما يسوى له كده جنيه كده والاّ اتنين .
وانطلق المستمعون يرددون فى ذهول :
- شوف يا أخى .. آى والله .. صحيح .. ما أرخص من بنى آدم ..
- دى عبر لمن يعتبر ..
- لازم دول كانوا عملوا فى دنياهم عمل يغضب الله ..
وسألنى أبو الهول وقد بدأت ملامحه تتحرك ؛ وعيونه تتفتح ، وملامحه تعلوها الدهشة :
- وبيجيبوا الناس دول منين يا داكتور ؟
والحق أنى ماكنت أعرف .. فزعمت أن هناك متعهداً يورد للكلية ماتحتاجه من جثث ( قياسا على متعهد الضفادع فى اعدادى ) .
وكان الشيخ عبد الحميد فى هذه الأثناء قد قارب الإنتهاء من حديثه ، والناس قد طال استماعهم إلى وصفه الدقيق لما ينتظر العاصين حتى بلغت أرواحهم الحلقوم . فماكاد يستثنى من العذاب ويقول : ( إلا من خشى ربه .. ) حتى هاج الناس وماجوا يتنفسون الصعداء - وقد عثروا أخيراً على طاقة أمل - ويثبتون أنهم حقا وصدقا مؤمنون خاشعون ، ويقولون فى نفس واحد مبهور : ( لا إله إلا الله ) ..


عدل سابقا من قبل في السبت يوليو 14, 2007 3:45 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
هاله خطاب

هاله خطاب


عدد الرسائل : 1835
تاريخ التسجيل : 20/06/2007

قصه أبو الهول ليوسف أدريس Empty
مُساهمةموضوع: رد: قصه أبو الهول ليوسف أدريس   قصه أبو الهول ليوسف أدريس Icon_minitimeالسبت يوليو 14, 2007 3:44 am

ورأيت الشيخ عبد الحميد يتطلع إليهم بوجهه السمين الذى كسته حبات العرق ، ويفرك كفيه مسروراً .. فحماسهم ذلك كان خير دليل على الأثر الخطير الذى أحدثه كلامه .

وتطلعت أنا الآخر إلى جمهورى .. كان كل شىء على مايرام .. وكدت أفرك كفى أنا الآخر .. لولا ابتسامة أبو عبيد الباردة التى لم تكن قد جفت بعد من فوق ملامحه ..

وأطلقت آخر سهم فى جعبتى ، ومضيت أحدثهم عن الملل الذى أصابنى من طول الأجازة وعن شوقى إلى تدريب يدى ومزاولة التشريح ، ولكى أقطع دابر الشك قلت : ( أننى حتى مستعد أن أدفع فى الجثة خمسة جنيهات .. إنما .. أنا فين والجثث فين ؟ .
وخرجت من المأتم يومها مرفوع الرأس .. حتى أبو عبيد قال لى وهو يودعنى :
- مع السلامة يابيه ..

ولم أراجع نفسى ولا فكرت بعد هذا فيما قلته ، ولا فى التخشب الرمى أو مقارع الحديد ذات الأسنان .. كانت فى نظرى أحاديث مآتم وجلسات لا أكثر ولا أقل .. تكون إذا قامت ، وتنفض معها .

ولكنى استيقظت ذات ليلة على نباح كثير يهدر أمام بيتنا حتى خلت أن كلاب جيراننا تطارد عزرائيل .. وسمعت بابنا يدق .. ولم يفزعنى ذلك .. فكثيراً ماكان يدق فى أية ساعة من ساعات الليل ويكون السبب مغص مفاجىء أو بول محتبس .
كان الدق يزعج أبى فقط ، ويجعله يلعن اليوم الذى أدخلنى فيه الطب .. فقد كان يخاف أن أخرج لرؤية مريض مرة فيتربص لى واحد فى الظلام ويقتلنى . أما لماذا يفكر أحد فى قتلى فذلك سؤال لم يخطر لأبى أبداً .
فتحت الباب ففوجئت بإنسان محنى يحمل فوق ظهره الزكيبة مملوءة لحافتها ويقول :
- مسيك بالخير يا داكتور ..
الصزت مألوف ، ولكن رغم الليل كان يجود بآخر أنفاسه وشعشعة الفجر قد أوشكت ، لم أستطع التعرف على صاحبه ..
- مين ؟
- آنى صالح ..
- أبو الهول ؟
- أيوه أبو الهول يا داكتور .. بقالى ساعة اخبط لما الكلاب كلت رجليه .. وسع شويه ..
وتراجعت إلى الوراء قليلا ؛ فاستدار وأنزل الزكيبة على الأرض ثم قال :
- الأمانة أهه ..
- أمانة ايه ؟!
كنت أسأله وأنا أنظر إلى وجهه ، وأحاول إدراك مالم يستطع قوله .. ولم أر على ضوء ( اللمبه السهارى ) إلا أن - أبو الهول - يبتسم ، وكانت أول مرة أراه يبتسم .. فأدركت أن الأمر أخطر مما توقعت ..

ونطق أبو الهول وقال أنه كان عائدا إلى الكفر بعد سهرته فى البلد فرأى جثة غريق طافية فى المصرف .. فقال : بس . وأخرجها من الماء ووضعها على الجسر .. ثم عاد جريا فى جرى إلى بيت أبو شندى ، وشحت منه زكيبه على ذمة الطحين ، ورجع إلى المصرف جريا فى جرى ، وعبّى الجثة ، وحملها ، وخرَّم من الذرة الصيفى حتى لا يراه أحد .. وتسلل إلى بيتنا بها ..
ووقفت أتابع كلامه ، وأنظر إلى طوله وعرضه وعيونه الوارمة وأشم الرائحة الفظيعة التى أدركت أنها تنبعث من الزكيبة ، وأنا مذهول مدهوش أكاد لا أعى مما يقول حرفا .. ووجدت نفسى أنفجر فيه ..
وانتظر إلى أن انتهيت وقال :
- جرى أيه يا داكتور .. أنت طلبك حدانا غالى قوى .. أحنا بدَّاك اليوم .. وان كان ع الخمسة جنيه آنى مش عايز خمسات .. اللى تحط أيدك فيه آنى قابله ..
ولم أعد أحتمل ، واندفعت آمره والغيظ يخنقنى أن يعيد الجثة كما كانت تماما ..
وصبر علىّ حتى جئت بكل ماعندى ، ثم بربش عينيه وقال :
- وزعلان قوى كده ليه يا داكتور .. بلاش نضرب فى العالى .. هات ياسيدى جنيه والعوض على الله ..
وانفجرت فيه مرة أخرى ..
-أنت اتهبلت .. أنت اتجننت .. انت جرى لعقلك .. فرفع يده فى مروغ بال وقال :
- ألاَّه يا اخواتى .. بلاش الجنيه راخر .. هات ياسيدى ريال خلينا ننفض .. عدنها دراع بس يا داكتور ..
وأخيراً جداً .. بعدما ارتفع صوتى ، وبدأ الغضب واضحا تماما فى ملامحى استطاع أبو الهول أن يفهم أنى لا أساوم ، وأن عليه أن يعيد الجثة إلى المصرف فى الحال ..
وهنا تجمدت ملامحه ، وعادت إلى جدها الذى لا ينفك ، وأغمض عينيه وقال :
- كده .. بقى تعملها فىّ يا داكتور .. همه الأفنديه كدابين يا اخواتى .. تحلف ع المصحف انك ماقلت الواحد بخمسة جنيه ... تحلف .. قلت والاّ ماقلتش ..
وثار بننا جدل طويل .. أنا أصر على أنى لا أذكر شيئاً ، وهو يعيد على مسامعى ماقلته كلمة كلمة ويعطى الأمارات والشواهد .. ولم أوفق فى اقناعه بإرجاعها إذ كنت أتعثر وأنا أقنعه فى الخجل الشديد الذى كان يملأ نفسى ، ولما لم أجد فائدة هددته بإبلاغ الأمر للعمدة .. وحينئذ أربدت ملامحه وبدأ كأنه سيثور ثورة لايعلم إلا الله مداها وقال :
- كلام ايه ده ياولاد .. بقى تعملها فىّ كده والآخر تبلغ .. طب ورحمة أبويا محمد أبو صيام مانى مرجعها واللى معاك اعمله .. وبلغ مطرح ماتبلغ .. أنت مش قلت الواحد بخمسة جنيه .. قلت والا ما قلتش .. بقى تعملها فىّ كده وتبلغ .. طب بلغ .. ورحمة أبويا محمد لاسيبهالك وماشى .. قلت والا ما قلتش ..
ويبدو أن صوتنا كان قد ارتفع حتى أقلق أبى .. فقد وجدته يبرز من باب حجرته ويقول :
- أيه جرى أيه ؟
وأسرعت إليه أرجوه ألا يتعب نفسه .. وأحاول إقناعه أن المسألة مغص لا أكثر ولا أقل ولكنى كنت متأخراً .. إذ قد لمح صالح واقفا بوجه لا يبشر بخير فقال :
- والواد ده عايز أيه .. دا الواد ده حرامى ( والظاهر ان الفلاحين كلهم حرامية عند أصحاب الأراضى ) .. دا بيسرق الكحل من العين وأبوه من قبله .. أيه اللى جابك دلوقت ياوله .. عايز أيه
كان أبى يقول هذا وهو يتجه إلى الباب ، وإلى صالح ، ولم استطع أن أتدخل فيما حدث بعد ذلك .. فقد تعثر أبى فى الزكيبة ، وكاد أن يسقط وتساءل غاضبا عم جاء بها ؛ وعم جاء بصالح ، وقال وهو يتحسسها ويحاول أن يخمن محتوياتها :
- أيه ده يا واد يابو الهول .. انت سارق بطيخ يابن الـ .. وجايبه هنا ليه ياوله .. والدكتور ماله .. دا مش بطيخ .. أف .. أيه ده يا خويا .. أعوذ بالله .. أعوذ بالله ..
وصرخ أبى صرخة عالية مفاجئة ، وكانت تلك أول مرة أراه يصرخ والفزع يملأ عينيه والرعب قد تملكه .. واندفعنا أنا وصالح نسنده حتى لا يتهاوى ، وسرت به وحدى إلى الفراش والصدمة قد أفقدته القدرة على السؤال والإستفسار أو حتى النطق ، ولكن لم يدم ذلك سوى لحظات .. استرجع نفسه تماما بعدها ، وجلس ينصت لى وأنا أحكى له ماكان من أول ما طقطق الحديث فى المأتم .. ينصت وهو يخبط كفا على كف ويقول : - مجرم .. حرامى ابن حرام سلْ ملْ
ولما عدت إلى أبو الهول وجدته جالسا مسندا ظهره إلى الحائط ورأسه مائل فى تأثر عميق .. وحين رآنى وقف وقال : - سلامته لفندى .. ياخبر أسود ومنيل ... ودى كانت شورة أيه السودة دى .. سلامته .
وهززت رأسى وأنا أعد الدش البارد الذى جهزته له .. ولكنه كفانى مؤونة الكلام فقد وجدته ينحنى على الزكيبة ويمتحن متانة رباطها ويقول : - والنبى يا داكتور آنى عمرى ماحلفت برحمة أبويا محمد باطل ؛ إنما عشان خاطر والدك .. يا خبر أسود يا ولاد .. دا الواحد خزيان من روحه .. ياشيخ دانى انبليت م الكسفه .. اللهم اخزيك يا شيطان . ماكنت مروح فى حالك ياوله مالك ومال خشب الرمة والزفت ده .. إنما تقول ايه .. يا خبر أسود ومنيل .. دانى كنت بقول لروحى زمان الداكتور حياخدك بالحضن ياوله .. والختمة الشريفة عمرى ماحلفت بحياة أبويا محمد باطل .
وكان قد أوقف الزكيبة فالتفت إلىّ قائلا :
- والنبى يا داكتور ولا صغرة تسندها سنده صغيرة .. بس أوعى هدومك .. هه .. ياقوة الله ..
ورفعها بقوة جبارة فوق كاهله ، وتمتمت وأنا لا أكاد أستطيع الكلام :
-معلهش يا صالح .. تتعوض .. معلهش ..
فقال وهو يدير الزكيبة وراءه ويتجه إلى الباب :
- واللا عليه .. آهى ان طلعت والا نزلت زكيبه .. هيه يعنى والا المقمعه اللى بيقول عليها سيدنا الواعظ .. آهى ان طلعت والا نزلت زكيبه .. حتكون أكثر من اللى بنشيله .. ياشيخ قول يارب .

وكان قد خرج من الباب ، وكاد يختفى فى الظلام حين فوجئت به يتوقف .. ثم يستدير ليواجهنى ويقول من تحت الزكيبة :
- بس افتكر كويس يا داكتور ... بذمتك ياشيخ وديانتك والأمانة عليك .. قلت والا ماقلتش ؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
قصه أبو الهول ليوسف أدريس
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتدى خطاب :: ركن الابداعات الادبية :: القصة والرواية-
انتقل الى: