أبو الهول - يوسف إدريس
كنا نعزى فى الحاج سعد ، والمأتم حابك إذ كان الوقت بعد العشاء حيث يكثر المعزون . كانت الخيمة على قد الحال فيها من الثقوب أضعاف مافيها من قماش ، والكلوبات نورها يعانى شحوب الأنيميا الحادة ، ومع هذا كان يبدو فى الظلام الخرافى المطبق على قريتنا ساطعا براقا يعشى جموع الفلاحين القادمين يعزون والذين لم تتعود عيونهم أبدا الضوء فى الليل ، فمابالك بنور الكلوبات ؟ ولهذا كانوا يتوهون فى الخيمة ولا يتعرفون على الناس إلا بصعوبة .
وكان الأعيان يحتلون - كالعادة - مقاعد الصدارة ذات القطيفة الباهتة المتآكلة ، والذهب الذى تحول إلى جرب ، والكسور والرضوض التى أصابت الأذرع والأرجل على مر الزمن .
وكنت أيامها عميد المتعلمين فى بلدتنا إذ كنت طالب طب ، وقد أجمع الناس إجماعا رهيبا على تلقيبى بالدكتور ، وتبنانى أهل بلدنا واعتبرونى ثروة قومية يفاخرون بها البلاد الأخرى . وتقول نساء قريتنا لصاحباتهن فى السوق :
- يا بت اختشى داحنا حدانا دكاتره ..
وأمر على الأولاد وهم يلعبون فيكفون عما هم فيه من لعب ويشير إلىّ أحدهم قائلاً للآخرين :
- والنبى ده دكتور حق حقانى يا ولاد .
وإذا مررت على الكبار تترى الدعوات خلفى ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم ، تحرسنى من العيون وتخلينى لأبى وتنجح لى المقاصد .
وأصبح من حقى وواجبى اذن وقد رفعنى الناس إلى مصاف الأعيان أن أجلس بينهم . ومع هذا كنت أفضل ويفضل معى بقية المتعلمين أن نجلس مع الغلبية العظمى من أهل بلدنا ، الذين كان يقول عنهم الحاج سعد نفسه - عليه رحمة الله - :
- ربنا سبحانه وتعالى خلق الناس اللى بتفهم من تراب الجنة الناعم ، وبعدين فضلت شوية نخالة خشنة احتار يعمل فيها ايه ، فراح راميها وقال كونى عبادى الفلاحين ، فكانت .
كنا نفضل الجلوس إلى هؤلاء حيث لا نتكلف ما لانطيق من التأدب واصطناع الرجولة ، وحيث نتحدث كمانشاء بلا ضابط أو رابط أو تشكك ، وحيث نجد من يتقبلون كلامنا وكأنه آيات منزلات .
وفى مأتم الحاج سعد أيضا جلست فى الركن القريب من الباب ومعى بعض طلبة الجامعة وعدد لا يحصى من ( النخالة ) ، وسرعان ما تضخمت الجماعة بانضمام بعض الذين يتمسحون بالمتعلمين وعلى رأس هؤلاء أبو عبيد التومرجى فى مستشفى حميات المركز ، والذى كان يفضل أن تتواجد ( الهيئة الطبية ) فى مكان واحد ، فقد كان هو الآخر يزاول الطب يكشف ويشخص ويعطى الحقن ، وله بالطو أبيض نظيف وجلابية ( دبلان ) وطربوش ، والحق أنه يبدو بملابسه تلك أوجه منا جميعا .
وكان آخر القادمين إلى مجلسنا عبد الله المزين ، والرجل كان يقوم أحياناً بعمل حلاق الصحة ويبدو أنه هو الآخر يعتبر نفسه يمت بصلة ما إلى الهيئة ، فكان إذا رآنا جالسين أعطى صبيه شنطة الحلاقة وأجلسه بها فى مكان بعيد وكأنه يتخلص من شخصيته كحلاق ، ثم يهل علينا قائلا للجميع :
- السلام عليكم !
ويلتفت إلىّ بسلام خاص قائلا :
- نورتنا يا دكتر .
وكان ينطقها ( دكتر ) ليؤكد لى وللسامعين أنه رجل فاهم ، وليبدأ بها شخصيته كعضو ملحق بالهيئة الطبية الموقرة ..
كنا جالسين فى صمت نستمع إلى الشيخ مصطفى مقرىء بلدنا الذى كان قد تسلم دكة الفقهاء ، وتسلمنا بعد العشاء يصب علينا جام صوته الغليظ القبيح ولايريد أن يختم أو ينتهى . وكلما تهدج صوته ظننا أن الفرج قريب وأنه سوف يسكت ، ولكن يخيب ظننا إذ ما أسرع ماكان يمط رقبته وكأنه يريد انتزاعها من جسده ، ويكشر جداً ولاندرى لماذا يكشر ، ويسد أذنه اليمنى ويخفى عينه ببقية أصابعه ويحزق وتمتلىء رقبته الطويلة الرفيعة بالعروق والهواء ، وتنتفخ حتى لنخاف عليها وعلينا من الإنفجار ، ثم ينغص الشيخ مصطفى ، وتتطاير شظايا صوته مخترقة فضاء الليل الواسع ترج قريتنا رجاً ، ويصحو لها نائمون فى بلاد أخرى .
وكان الوحيد المباح له الحركة فى المأتم هو شيخ الخفراء وقد شنط البندقية فى كتفه وراح ينظر إلى الناس كمن يقول : نحن هنا . ينظر إليهم ويتمشى فى الخيمة قليلا ، ثم يسرع إلى الخارج يفاجىء الأولاد الذين تجمعوا على المأتم والكلوبات ونقوش الخيمة الغريبة الباهتة ، وينهال عليهم ضربا بخيزرانته .
وجاء الفرج وقال الشيخ مصطفى ونحن غير مصدقين : صدق الله العظيم .
وانهال عليه الناس من كل صوب :
- تقبل الله يا أستاذ .... الله يفتح عليك ... حرماً ... الله يفتح عليك ... حرما .. الله يعمر بيتك .
وكانت الكلمات تخرج من الأفواه حارة لافحة ، آخر ما تصلح له أن تكون دعوات .
وامتلأت الخيمة بعدها بهمهمة الجماعات المتقاربة . وبدأنا نتكلم نحن الآخرون ونال الشيخ مصطفى من ألسنتنا الكثير . ثم بدأنا كالعادة نخوض فى سير الأعيان ، وانتهينا أخيرا إلى ذكرياتنا عن القاهرة .
كنا نتكلم نحن فقط وكان بلدياتنا الفلاحون ساكنين يسمعوننا ويضحكون ، وينظرون إلينا ويتأملون كلامنا وكيف ننطقه ، ويتحسسون بأعينهم جلابيبنا ( الزفير ) و ( البفتة ) ، ويتفرجون على طربوش أبو عبيد التمرجى وعلى ساعة يدى وبريقها كلما عكست ضوء الكلوبات ولا يتكلمون .. وهكذا كان دأبهم دائما إذا جلسوا معنا ، نرى فى وجوههم السمراء المعفرة اقتناعا كاملا بما نقول ، وفى عيونهم إعجابا مطلقا لنا ، وفى تأييدهم لنا حماسا منقطع النظير .. وكان يهيمن عليهم دائما وجوم لعله خوف منا ، ولعله هوة يحسون أنها تفصل بيننا وبينهم ، فكان الواحد منهم لايخاطب الواحد منا ، وانما إذا أعجبه كلام قيل يميل على جاره ويهمس له معلقا أو يلكزه ، أما إذا بلغ الإعجاب حد الإعجاز فحينئذ تتصاعد منهم التعليقات رغما عنهم .. كلها متشابهة ، وكلها فى آن متقارب وكأنما تصدر عن جسد حى واحد خشن كبير .
وحينما أوجد ويوجد أبو عبيد التمرجى ، كان ينتهز أول فرصة تسنح له ويخبط سؤالا ما .. ولابد أن يكون السؤال فى الطب . كان يزاول العلاج ويهمه أن يثبت للفلاحين وللمتعلمين أيضا أنه عالم كبير يناقش ( الدكتور ) مناقشة الند للند . وكان إذا تحدث معى أو سألنى لا يفعل ذلك بلغة بلدنا المحلية وإنما بلغة البندر ، وإلا فما الفرق بينه وبين الفلاحين ؟ .. ولايسأل السؤال بطريقة عادية وإنما له أسلوب مؤدب فى أدبه برود وتلامة ، نفس أسلوبه الذى يعرض به ( خدماته ) على الناس ويطالب بأتعابه وفوقها ( شوية ) لبن أو أكلة بامية من بامية الزبائن الحلوة .. ودائما بامية الزبائن حلوة .
وكانت أسئلته تزعجنى جداً ، فأيامها كنت لا أزال إعدادى طب أشرح الضفادع وأدرس الديدان ، ولا أعلم عن الأدوية والأمراض إلا أنى ( دكتور ) . وكان هو من كثرة عمله فى المستشفيات قد حفظ كام اسم مرض وكام اسم دواء . وليلتها استطرد أبو عبيد يتحدث عن مرض الحاج سعد وكيف أخذه للدكتور حنا طبيب المركز وفشل علاجه ، ثم وصف له هو حقن ستروميسين وأقراص سلفات يازين 3 × 3 × 5 ( هكذا كان يقول ) ، وم ، قلوى ، ومنعه عن الطعام منعا باتا ، ولكن المرحوم هفت نفسه إلى الفسيخ يوم السوق والتهم وحده رطلا .. فحم القضاء ..
وغمغم الجمع الذى حولنا ، فهنا وفى مجال القسمة والأعمار يستطيعون الكلام :
- بتيجى على أهون سبب ..
- أجله كده ..
- ماحدش بيفوت يوم من عمره ..
- حكمته ..
وإذا بدأ أبو عبيد .. فمحال ينتهى ... ولهذا أنشأ يحدثنا عما جرى بعد الوفاة .. فهو الذى استخرج تصريح الدفن رغم عصلجة الطبيب ... واستخرجه بعد ميعاد العمل الرسمى . وكان واضحا أن لولا شطارته لبقى المرحوم بلا دفن إلى اليوم التالى .
ولست أذكر كيف استطعنا نحن ( استخراج ) الحديث من أبو عبيد وإدارته بيننا نحن ( المتعلمين ) ، ولكن أذكر أن المناقشة دارت حول الجثة ، وعن هل من الممكن أن تبقى أياماً بلا دفن . وبعد أن هدأت حدة النقاش سألنى أبو عبيد والإهتمام الشديد ظاهر على وجهه :
- ألا قوللى يا دكتور ؟
وكان يقول لى ( يا دكتور ) ليبدو ثمة فرق بينه وبين الحلاق من ناحية ؛ وبينه وبين الفلاحين الذين يقولون ( داكتور ) من ناحية أخرى ..
واستدرت إليه استعد لسؤاله البايخ ، فقال :
- هو التخشب الرمى بيظهر بعد الوفاة بقد ايه ؟
وصمت الموجودون جميعا ، المتعلمين وغير المتعلمين ، يحملقون مذهولين فى كلمة ( التخشب الرمى ) وهى لاتزال ترن فى الجو وتحوم حولنا ، حتى حلاق الصحة أذهلته الكلمة فراح ينظر إلى أبو عبيد فى دهشة وحسد وكأنما يستكثر عليه معرفة كلمة كتلك . ومالبث أنظار الجميع أن تحولت إلىّ تستنجد بى وتنتظر الشرح . وكنت من لحظة أن سمعت الكلمة قد أصابتنى حيرة بالغة فماكنت أعرف ماتعنيه . ولما وجدت التساؤل حاصرنى ابتسمت ابتسامة صفراء وسألته السؤال الذى يكسب به العاجز الوقت :
- فيه ؟
فقال وكأنه يطرح قضية عامة للمناقشة :
- أصلى اختلفت النهارده مع الدكتور صبحى الحكيمباشى بتاعنا ... أنا أقول نص ساعة وهو يقولى يا أحمد ساعتين بس ..
فأيه رأيك يا دكتور ؟
وتصنعت لهجة العلماء وقلت :
- لا .. أنت غلطان وهو غلطان .. هى تيجى ساعة كده ...
ونظرت إلى وجوه الجالسين فرأيتهم يسمعون إجابتى ويتبادلون النظرات ؛ والكلمة لا تزال ترن فى آذانهم ولا يفهمون . وصمتنا ثوان قليلة رحت أتطلع أثناءها إلى أبو عبيد لأرى إن كان قد اقتنع أم لا يزال به شك ؛ وكان هو خافضا بصره إلى الأرض يحدق فى قبضته بأدب جم . وكنت أعرف حركته اللعينة تلك وأعرف أنه يصطنعها كلما ارتبكت أنا حتى لا يحرجنى ، إذ لا يصح وهو ( التمرجى ) أن يحرج ( الدكتور ) ..
غير أنى فوجئت بصالح - الله يعافيه بالعافيه - يزر عينيه ويسألنى :
- إلا يا داكتور أيه خشب الرمه ده ؟